الشيخ لشعراوي |
يقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي موضحـًا منهجه في التفسير : خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرًا للقرآن .. وإنما هي هبات صفائية .. تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات .. ولو أن القرآن من الممكن أن يفسر .. لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره .. لأنه عليه نزل وبه انفعل وله بلغ وبه علم وعمل .. وله ظهرت معجزاته .. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن يبين للناس على قدر حاجتهم من العبادة التي تبين لهم أحكام التكليف في القرآن الكريم ، وهي ” افعل ولا تفعل .. ” تلك الأحكام التي يثاب عليها الإنسان إن فعلها ، ويعاقب إن تركها ،وهذه هي أسس العبادة لله سبحانه ، التي أنزلها في القرآن الكريم كمنهج لحياة البشر على الأرض .. أما الأسرار المكتنـزة في القرآن حول الوجود ، فقد اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما علم منها .. لأنها بمقياس العقل في هذا الوقت ، لم تكن العقول تستطيع أن تتقبلها ، وكان طرح هذه الموضوعات سيثير جدلاً يفسد قضية الدين ، ويجعل الناس ينصرفون عن فهم منهج الله في العبادة إلى جدل حول قضايا لن يصلوا فيها إلى شيء .
والقرآن لم يأت ليعلمنا أسرار الكون ، ولكنه جاء بأحكام التكليف واضحة ، وأسرار الوجود مكتنزة .. حتى تتقدم الحضارات ويتسع فهم العقل البشري .. فيكشف الله من أسرار الكون ما يجعلنا أكثر فهمـًا لعطاءات القرآن لأسرار الوجود ، فكلما تقدم الزمن وكشف الله للإنسان عن سر جديد في الكون ، ظهر إعجاز في القرآن .. لأن الله قد أشار إلى هذه الآيات الكونية في كتابه العزيز .. وقد تكون الإشارة إلى آية واحدة أو بضع آيات .. ولكن هذه الآية أو الآيات تعطينا إعجازًا لا يستطيع العلم أن يصل إلى دقته .
والقرآن الكريم حمل معه وقت نزوله معجزات .. تدل على صدق البلاغ عن الله ، وعلى صدق رسالة رسول الله ، وكانت أول معجزة أن القرآن كلام الله .. فيه من عطاء الله ما تحبه النفس البشرية ويستميلها .
إنه يخاطب ملكات خفية في النفس لا نعرفها نحن ولكن يعرفها الله خالق الإنسان وهو أعلم به .. هذه الملكات تنفعل حين تسمع القرآن الكريم فتلين القلوب ويدخل الإيمان إليها .. ولقد تنبه الكفار إلى تأثير القرآن الكريم في النفس البشرية تأثيرًا لا يستطيع أن يفسره أحد .. ولكنه يجذب النفس إلى طريق الإيمان ويدخل الرحمة في القلوب .
لذلك كان أئمة الكفر يخافون أكثر ما يخافون . من سماع الكفار للقرآن الكريم .. ويحاولون منع ذلك بأي وسيلة .. ويعتدون على من يتلو القرآن الكريم .. ولو أن هذا القرآن الكريم لم يكن كلام الله الذي وضع فيه من الأسرار ما يخاطب ملكات خفية في النفس البشرية .. ما اهتم أئمة الكفر بأن يستمع أحد للقرآن الكريم أو لا يستمع .. ولكن شعورهم بما يفعله كلام الله .. جعلهم لا يمنعون سماع القرآن الكريم فقط .. بل قالوا كما يروي لنا القرآن الكريم : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )(فصلت/26) .
وهكذا نعرف أنه حتى أهل الكفر كانوا لا يمنعون سماع القرآن الكريم فقط .. بل يطلبون من أنصارهم أن يلغوا فيه ، ومعناها ( يشوشرون عليه ) .. ولا يمكن أن يكون هذا هو مسلكهم وتلك هي طريقتهم إلا خوفـًا مما يفعله القرآن الكريم في كسب النفس البشرية إلى الإيمان .. إن مجرد تلاوته تجذب النفس الكافرة إلى منهج الله .
ولو نأخذ مثلاً قصة إسلام عمر بن الخطاب نجد أنه علم أن أخته فاطمة وزوجها ابن عمه سعيد بن زيد قد أسلما .. فأسرع إليهما ليبطش بهما وحاول أن يفتك بسعيد بن زيد .. فلما تدخلت زوجته فاطمة لحمايته .. ضربها حتى سال منها الدم .. وعندما رأى عمر الدم يسيل من وجه أخته فاطمة .. رق قلبه وحدث في قلبه انفعال بالرحمة بدلاً من انفعال الإيذاء .. فخرج العناد من قلبه وملأه الصفاء .. فطلب من أخته صحيفة القرآن التي كانا يقرآن منها .. وقرأ من أول سورة ” طه ” ، ثم قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه .. ثم أسرع إلى رسول الله يعلن إسلامه .. ولذلك فإنه إذا خرج العناد والكفر من القلب .. واستمع الإنسان بصفاء إلى القرآن الكريم دخل الإيمان إلى قلبه .
لقد سمع عمر بن الخطاب القرآن الكريم قبل ذلك ولم يسلم .. ولكنه عندما رأى الدم يسيل على وجه أخته وتبدل انفعال الإيذاء في قلبه بانفعال الرحمة .. استقبل القرآن الكريم بنفس صافية فامتلأ قلبه بالإيمان وأسرع إلى رسول الله يعلن إسلامه .
ولذلك كان الكفار يحاولون إهاجة مشاعر الكفر في القلوب حتى لا يدخلها القرآن الكريم .. لأنه لكي تستقبل الإيمان يجب أن تخلص قلبك من الكفر أولاً .
وهكذا نرى أن القرآن الكريم لأنه كلام الله المثمر .. فإن له تأثيرًا خاصـًا في النفس البشرية .. حتى إن الكفار كانوا يسترقون سماع القرآن من وراء بعضهم البعض .. وكانوا يقولون : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى عليه ، وكان هذا أول إعجاز لأن القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه.
ولقد وقف الصحابة والمؤمنون الذين عاصروا رسول الله عند عطاء القرآن الكريم وقت نزوله فيما استطاعت عقولهم أن تطيقه من أسرار الكون ومن أسرار القرآن الكريم .. فلم نجد صحابيـًا سأل رسول الله عن معنى آيات الكون في القرآن الكريم .. أو عن عطاءات القرآن في اللغة .. فمثلاً لم يسأل أحد عن معنى ” ألم ” .. أو ” عسق ” .. أو ” حم ” .. مع أن رسول الله كان يستقبل كثيرين يؤمنون بكتاب الله .. وكثيرين يكفرون بما أنزل الله .. وكان هؤلاء الكفار يريدون أن يقيموا الحجة ضد رسول الله وضد القرآن الكريم .. لم نسمع أن أحدًا منهم .. وهم قوم بلغاء فصحاء عندهم اللغة ملكة وموهبة وليست صناعة ..لم نسمع أحدًا من الكفار قال ماذا تعني ” ألم ” .. أو ” حم ” أو ” عسق ” .
كيف يمر الكافر على فواتح السور هذه ولا يجد فيها ما يستطيع أن يواجه به رسول الله ويجادله ، لقد كانت هذه هي فرصتهم في المجادلة .. ولا شك أن عدم استخدام الكفار لفواتح السور هذه .. دليل على أنهم انفعلوا بها وإن لم يؤمنوا بها .. ولم يجدوا فيها ما يمكن أن يستخدموه لهدم القرآن الكريم أو التشكيك فيه .. ولو أن هذه الحروف في فواتح السور كانت تخدم هدفهم .. لقالوا للناس وجاهروا بذلك .
رسول الله وهو الذي عليه القرآن الكريم نزل ، فسر وبين كل ما يتعلق بالتكليف الإيماني .. وترك ما يتعلق بغير التكليف للأجيال القادمة .. ويمر الزمن ويتيح الله لعباده من أسرار آياته في الأرض ما يشاء .. فيكون عطاء القرآن الكريم متساويـًا مع قدرة العقول .. لماذا ؟ لأن الرسالات التي سبقت الإسلام كانت محدودة الزمان والمكان .. أما القرآن الكريم فزمنه حتى يوم القيامة .. ولذلك فلابد أن يقدم إعجازًا لكل جيل .. ليظل القرآن الكريم معجزة في كل عصر .
ــــــــــــــــــــــ
التسميات :
تفسير االقرآن